يعود الأب من السفر ويُفتح الموضوع ..في جلسة تجمع أبا وأم سعاد محاطة بالسرية التامة..لتتمخض عن قرار..وأي قرار..
هل
تعلم يا ابا سعاد من حل ببيتنا ضيفا بالأمس ؟؟؟ زوجة سعد الإسكافي ( مصلح
الأحذية ) وأختها... مالذي أرادتاه ؟؟؟ هههه ضحكة ازدراء قصيرة ..ابنتك
تريدان سعاد تريدانها لعصام زوجة ..يقف الزوج وكأن الثعبان يلسعه ...ماذا ؟؟؟
سعاد ابنتي لهؤلاء ؟؟؟ قولي حديثا غيره يا امرأة ..سعاد ابنتي أنا ؟؟؟
تتزوج
ذاك ...ذاك ..ذاك المدعو عصام ؟؟؟ خلت الأرض رجالا في مستوى خطبة ابنتي
؟؟؟ وماذا قلت لهم ؟؟ سعاد أين أنت أقبلي يا بنيتي ..تدخل البنت على أبويها
خائرة العزيمة لتسمع وقد سمعت مايدخل الروع في نفسها الكريمة...سعاد بنبرة
حادة مازجها استنكار..أسمعت يا سعاد ماتقوله أمك؟ هؤلاء من هم في ضنك
العيش يريدونك لإبنهم يريدونك حطبا لجحيم يعيشونه ..أرأيت ؟؟ يتطاولون وهم
أقصر الناس ..تهدئ الأم من روعه..كفاك يا رجل ...ماذنب الصبية ؟؟؟ لسنا
ملزمون بالرد عليهم ..ولاالإلتفات لحماقتهم...سعاد تسمع ببلاهة مايدور من
حديث بشأنها وكأن الحديث حول غيرها ..لم تنبس ببنت شفه..وانسحبت الى غرفتها
خائرة العزيمة لتخلو بنفسها ولتستعيد فصل حديث أمها وأبيها..كلمات قد
صمّت أذنيها...حطب...جحيم...ضنك العيش...كيف لك أبي تفكر بهذا
الأسلوب...أليسوا هم بشر مثلنا ؟؟ يحسون ما نحس يتألمون مثلما نتألم يسعدون
مثلما نسعد ..يضحكون يبكون مثلما نفعل نحن أيضا .. هم بشر مثلنا تماما وقد
يفضلوننا بما يحوزونه من تواضع وطيبة وحسن خلق وقد تثقل كفة ذلك أمام
مالدينا من مسكن فسيح وسيارة ورصيد في البنك..واأبتاه !!! أهكذا تُقاسُ الأمور قالتها ودمعة حرّى سالت على خدها..
سعاد
لم تكن تهيم بعصام حبا كما قد يذهب خيال القارئ سعاد حباها الله أفضل نعمه
على خلقه..سعاد حازت نعمة العقل..تنظر بعينه صوابا فاختارت إرادتها طواعية
القبول بالخاطب..لأنها وجدت به مواصفات الرجل الحق ..الرجل الذي بمقدوره
الحفاظ على كرامتها الرجل الذي لن يظلمها وإن اغتاظ منها رجل كهذا خلقه
الحياء رفقاء له الثبات والتؤدة والأناة..وهدوء الطبع لن يذلها أو يلحق
الإهانة بها فكريم النفس يأبى على نفسه أن يذل الآخرين..سعاد لم تكن بحاجة
لربط علاقة بعصام لتعرف عنه كل ذلك ..استشعرته برجاحة عقلها وصفاء
سريرتها...وتسترجع سعاد ماكان يملأ به عقلَها الصغير أبوها سنوات الطفولة
قصصا يقرأها لها عن المثل والقيم وثقل مكارم الأخلاق أمام سفاسف الدنيا
وعرضها الزائل وكم كان يردد على مسمعها أشعارا من قبيل..
إني لتطربني الخـلال كريمة.... طرب الغريب بأوبـة وتـلاق
وتهزني ذكرى المروءة والندى.... بين الشمائل هـزة المشتـاق
فإذا رزقت خليقة محمـودة..... فقد اصطفاك مقسـم الأرزاق
فالناس هذا حظه مال وذا..... علم وذاك مكـارم الأخـلاق
أشعار كانت تحفظها عن ظهر قلب ولازالت.. وكأنه لقنها إياها اللحظة..
ولكن..ليس
يغيب عن سعاد ومثيلاتها أن تلك الأقوال كانت بالنسبة لأبيها داعما
لإعانته على غرس كريم الخلق في نفس ابنته صغيرة لتشب عليه.. وأثمر الغرس
ليُجنى ولم يجد مكانا لحفظ الثمر غير صخرة واقع الأب الصماء الباردة
...أوكلت سعاد أمرها لربها واستسلمت لمشيئة أبيها وأمها وليس لها غيره فلقد
كبُرت كغيرها كثيرات في مجتمعنا الشرقي المحافظ على السمع والطاعة لأبويها
مجتمع محافظ على كل الموروثات خيرها وشرّها سواء...وأصبح الصباح وبنوره
أشرق ولاح..لتستعجل أم سعاد إنهاء الأمر وسد كل باب للأمل..فترسل الى أم
عصام تطلب حضورها ولتبرئ ذمتها من كل ما من شانه يوحي للخطاب أن شعرة رجاء
في القبول باقية ولتقطع ذلك بالقول ...ألم أقل لك يا أم عصام أنه ليس
لوحيدتنا رغبة الى الزواج حاضر الأيام ..ناهيك عن رفض الأب جملة وتفصيلا عن
الخوض في هذا الشأن ...أم عصام تغادر المكان تجر وراءها كل أذيال الخيبة
والحرمان...ماذا ستقول وكيف ستقابل قرّة عينها عصام ؟؟؟
خطواتها
عائدة الى الدار بطيئة تحمل أقدامها حملا على المشي..تصل الدار منهكة
خائرة القوى يُفتح الباب ..سؤال وسؤال وسؤال يُطرحْ..لاتلتفت لأحد ..ينتهي
بها المطاف الى أريكة في ركن البهو تستلقي عليها...وتقول بصوت مبحوح لعصام
الذي كان يتبع خطواتها...عصام ولدي : لانصيب لك مع سعاد ..وحسبك الله ونعم
الوكيل...
باختصار أيها الأفاضل ..أنتظر توقعكم لما سيكون عليه المشهد الموالي لأواصل...هذا شَرطي ..وأحييكم صدقا......
ينتهي
بها المطاف الى أريكة في ركن البهو تستلقي عليها...وتقول بصوت مبحوح لعصام
الذي كان يتبع خطواتها...عصام ولدي : لانصيب لك مع سعاد ..وحسبك الله ونعم
الوكيل...
يقف
صامتا لحظات مبهوتا لماسمع بل لما لم يتوقع سماعه...يتراجع الى الوراء
خطوات محدثا نفسه بأنه لايحلم وأن أمه كانت في كامل قواها العقلية وهي
تبلغه الخبر الأليم...يدور حول نفسه وكأنه يبحث عن الباب..يتوجه نحوه
ليغادر الدار وأمه تنادي من ورائه : عصام يا ولدي لاتزعج هي مشيئة الله وهو
أعلم بما فيه خير لك ولها..يحتضن الشارع عصام بضجيج حركته وأزيز محركات
سياراته..يمشي على كل الأرصفة يصل كل مفترق ليأخذ وجهة لايريد أن يعرف
وجهتها ..أنهك السير قدماه فيلج أقرب حديقة يتهالك على احد مقاعدها الحجرية
الباردة التي لايشعر برودتها رغم صقيع أصاب المدينة صبيحتها..يمدد قدماه
ملقيا برأسه الثقيلة الى الوراء مغمضا عيناه..مسلما نفسه لهواجسه...
توقف عزيزي القارئ..عصام ليس متيّما حبا لسعاد..وقد توحي سلوكاته بذلك بل تخبر عنه انه ممن صفعهم الحب بكفّ الرفض و الصدّ الحرمان..
عصام
ليس كغيره من الشباب عصام رجل أراد امرأة ليست كغيرها امرأة بكل ما تحويه
الكلمة من معان..وجدها سعاد هي كذلك امرأة رسم وجودها في حياته بريشة عقله
مستخدما ألوان ميوله وخياراته في المرأة التي يريدها رفيق سفره على قطار
الحياة...سعاد كذلك لم تكن كغيرها من البنات في سنها لم تحب يوما أحدا
وكأنها قد حفظت قلبها الطيب الحنون في قلعة حصينة بعيدا أن تطالها سهامه
المتوقدة كل ألوان اللوعة والشوق والحنين ومرارة الهجر..سعاد لم يجد الحبُ
رجلاً طريقاً الى قلبها الذي ملأه رجل حبا كان أباها مذ فتحت عينيها
الجميلتين على هذه الحياة...نعم هكذا سعاد كانت تحدث نفسها حين عادت
أدراجها الى غرفتها بعد محادثة أبيها لها بشأن مانجر عنه من قرار بشأن
الخطوبة نعم سعاد كانت تحدث نفسها أحببتني يا أبتاه حبا لم يحببه أب لبنته
وإنه لقاتلي حبُك يا أبتاه...
سعاد
أرادت رجلا ليس كغيره من الرجال رجلا بكل ما تحويه الكلمة من معان للرجولة
..وجدته عصاما هو كذلك رجل رسمت وجوده في حياتها بريشة عقلها مستخدمة
ألوان ميولها وخياراتها في الرجل الذي تريده رفيق سفرها على قطار
الحياة..أهي توأمة لروحيهما ولم يدريا لذلك شيئا..؟؟؟ أهو تثبيت لحديث
الحبيب المصطفى عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم ..القائل : الأرواح
جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.. أهو الحب ما
يجعلهما ينشدان الرابطة الزوجية..؟؟؟
أهو
كغيره من الحب الذي نسمع عنه ونقرأ عنه ونشاهد فصول أحداثه بين الشباب
والبنات ؟؟؟ بغثه وسمينه بزَيْفهِ وصدقه ..أم هو حب مختلف ..أم هو الحب
الحقيقي الذي.كثيرا ما يُذكرُ عنه كذكر العنقاء..؟؟؟
لنترك
عصاما لوحدته في تلك الحديقة الهادئة الخالية من حركة المتنزهين فملأ
المكان وحشة البرد والصمت ... فريسة لهواجسه ولنعد قليلا الى الوراء والى
أهل سعاد وجهتنا..سعاد لم تُستشر في الأمر أبوان يحبان ابنتهما حبا عظيما
تجاوز كل حدود ما يعقل..أبوان بلغ بهما المر أنه لايمكن لأي كان أن يسحب
منهما قرة أعينهما سعاد خاصتهما ولايمكن أن يشاركهما محبتهما غيرهما ..هو
الحب جنون الحب في أبشع صوره ..فهل كان يُنتظر لمن عرف أبا سعاد وأمها عن
كثب هل كان سينتظر أن تُستشار سعاد في إمكانية انتقالها من حياتهما الى
حياة أخرى ..ومنه فإن تحجج الأب ببساطة أسرة عصام وعدم ارتقائها الى مستوى
أسرته من قبيل غريق تمسك بقشة وهل يجدي الغرق تمسك بقشة ..سعاد تعلم بكل
ذلك ولذلك صمتت صمت المغلوب على أمره المقهورة إرادته..
الأب
يصيبه الذهول مما حدث الأب يدرك الآن أنه أمام سعاد المرأة.. المرأة التي
تشعر بالحاجة لرجل يملأ عليها حياتها وليست سعاد الطفلة التي كان بنفسه
يختار فساتينها المطرزة الجميلة الطفلة التي لايشاهد يوما في حركته قرب
الدار الا وهي على كتفيه مدللة تأخذه أية وجهة شاءت والويل له إن خالف أمرا
لها فمزيدا من الركل يتلقاه على جنبيه ..سعاد التي لم يكن لأحد في قلب
الدار أو على طول الشارع بقلب الحي ليجرؤ على إغاضتها ناهيك عن الوقوف أمام
إرادتها ..سعاد صارت امرأة وأدرك الأب ذلك حين فاتحته الأم ليلتها موضوع
خطوبتها...أعذرني أيها القارئ الكريم لأنقلك ...بشيء من العنف الى دار
عصام..حيث خيمت سحابة بل ركام حزن وخيبة أملِ مسحا كل ألوان البهجة والأمل
عن صفحته لينشرا عليه رمادية الكآبة ..حتى أضواءه أمست باهتة خافتة
واقتُصِر منها على قدر الحاجة ...صمت رهيب لايقطعه سوى حركة أقدام بين
البهو والغرف وأم تبعث فضلة من حياة بغرفة المطبخ..لتعيد إعداد طعامٍ لعشاء
كان غداءً لم تطله نفوس شبعت ألما وحسرة ..شتان بين الأمس واليوم وكأن
الأمسَ مرّ عليه دهر فلم يبق منه سوى حلاوة ذكرى أمل ورجاء ..ليعقبه يوم
وكأنه أول دهر لاآخر له إحباطا ...وعصامنا البائس الوحيد يشعر وحشة ظلام
خيّم على الحديقة آلمته لسعة البرد فينهض متثاقلا كمن استفاق من غيبوبة
ينظر حواليه ليدرك بعد شق النفس أنه قضى يومه بعيدا عن الدار بإحدى ضواحي
المدينة ... يخرج من الحديقة ليخليها لطير تأوي أوكارها ...الطريق الى
البيت كان طويلا مرهقا مجهدا لولا أنه كان يسترجع شريط الأحداث بتفاصيله
ليجد نفسه امام الباب يدق ليُفتح على مرأى الأم والقلق والحيرة يعلوان
محياها فاتحة ذراعيها حضنا له قبل أن تنفجر باكية ..عصام حبيب روحي ..مالذي
قتلتني حيرة عليك أين كنت طوال اليوم ..لقد بحث عنك أخوك عند أصحابك
ومعارفك وجاب كل مكان تعودت وروده.. يغرق عصام في دموع أمه ..ليتدخل الأب
مهدئا روعيهما..سائقا عصاما الى غرفته طابعا قبلة على خده قبل أن يوصد
الباب وراءه..
وتمر
الأيام بثقل رتابتها هنا وهناك..سعاد تغلق على نفسها ولاتسمح الا يسيرا من
التواصل مع باقي أفراد أسرتها ..ويدور الحديث مجددا هذه المرة حول زيارة
راق أو طبيب نفسي معالج..ولايفلح أحدهم في ثنيها عن خلوتها بنفسها...زهرة
أو زهرة الدار كما كان يناديها أبوها علاها الذبول أبوها من كان يخفي حسرته
وألمه على ما آل إليه حال ابنته..ويتجاهل ماحدث وكأنه اللاحدث... ولكن
عيناه تصرخ انكسارا وذلا كانت ترى ذلك كله في عينيه سعاد وكان يرى في
عينيها معاناة الضحية المستكينة لقرار جلادها .....كانت تقضي أغلب وقتها
أمام النافذة في الدور الثالث من البناية تنظر الى البساتين والروابي تتبع
حركة الطير تارة وتشدها رقصة الشمس عند المغيب تارة أخرى عجيب أمر تلك
المخلوفات حياتها ..هناك بعيدا عن هنا كل شيء مختلف عن هنا لايهم الشمس وهي
تضحك الكائنات نورا ودفئا لاهم لها سوى أن شرق صباح يوم آخر لتضحك
الكائنات مرة أخرى ..والطير والفراش والورود والماء الرقراق في الجداول
لاشأن لها كلها غير إشاعة الفرحة والحبور على مسرح الطبيعة بعيدا عن
ترتيبات يد الإنسان التي لاسعْيَ لها غير إفساد نغمة ألحان عزفتها عفوية
الحياة..نقر على الباب يأخذها من استغراقها في وقت متأخر من الليل..الأم
تخبرها أن أباها تأخر على غير عادته وتسألها مشاركتها حيرتها وانتظارها
..عساه خيرا يا أماه تجلس الى جنبها ليخيم الصوت على المكان من جديد.الا من
صوت حركة عقرب ساعة كبيرة تتوسط الجدار..ضخّمه سكون الأحياء في تلك الساعة
من الليل..يدق الباب تهرع الأم لفتحه ولدها الأكبر..أماه الى المستشفى أبي
هناك في حالة خطرة الوقت لايسع الإنفعال ِردّةً على المسموع أو حتى
السؤال..عما حدث..دقائق على متن سيارة رباعية الدفع والجمع أمام غرفة
لايسمح ممرض على بابها لأي كان بالدخول..لحظات قلق وترقب..خلالها يبلغ
الولد امه أن أباه تعرض لحادث بالسيارة التي كانت تقله الى البيت بعد
مغادرته مكتب عمله رفقة سائقه الذي قضى نحبه في موقع الحادث تنهار الأم على
مقعد قريب تحاول البنت الأخذ بيدها وسندها..ولم يطل المقام بها سوى لحظات
لمعايشة وقع النبأ ليضربها آخر لحظة خروج طبيب من الغرفة منهك القوى زائغ
النظرات لايدري من يخاطب بقول خالطته حشرجة ..الدوام لله تصرخ البنت
آبتاااااااااااه ..وتتهاوى الأرض بلا حراك ...تندفع الأم الى الغرفة نحو
جسد مضرج بالدماء تتوقف فجأة وتتراجع الى الوراء ..لاااااااا ثم تتقدم
ثانية تمسك بكتفيه تهزه صارخة قم يا سعيد أنت حي أنت موجود..لا هي الغيبوبة
فقط وستفيق ناوليني عطرا يا سعاد ابتعدوا عني اتركوني أشعر نبضه أشعر حياة
بجسده لم يصلكم نبضها..تصمت فجأة لتتهاوى الأخرى على الأرض كان المشهد
صاعقا بالنسبة لمن حضره ..وتسعف البنت وأمها ..تقضيان الليلة هناك في غرفة
هُيِئت خصيصا لهما..
نقطة أيها الأفاضل...أضعها نهاية للجزء الأول ...فترقبوا الجزء الثاني والأخير الأيام القادمة ..وأشكر متابعتكم الرائعة....
كان
موت والد سعاد فاجعة لكل أفراد الأسرة أسابيع مضت بما مضى فيها من بكاء
ولوعة وحركة عزاء هزت هدأة البيت المعهودة لتعود السكينة اليه بمسحة حزن
أتت على كل مافي البيت حيا كان أو جمادا..سعاد تملكها الشعور باليتم بفقد
أبيها الذي لم تفتح عليه عينيها يوما الا باسم المحيا مُرحبا كان او مودعا
مواسيا لحظات ألمها أو مخففا ضيقا ألمّ بها ..كانت تدرك يقينا أنها كانت
أحب اليه من كل من أوى ذلك البيت..هي أدركت بعد رحيله أن لاأحد يملأ عليها
حياتها بعده..فقدت رجلا سعاد . .لها الله فمن يكون لها بعده رجلا في مثله
إحاطتها حنوا ورعاية.. ؟؟؟
تتقبل
الأمر الواقع في صمت وتنظر بعين التأمل لما يدور حولها أمٌ قُجِعَت بفقد
الزوج وتنحصر فاجعتها في ذلك ولاتسترق من حزنها لحظات تمسح بيد الأمومة على
رأس اليتم ..
إخوة
ثلاث ..أكبرهم كان أحوج الناس الى حضن أمه مذ كان صغيرا ولم يزل يوما..
وتخيّم رتابة نسجها الحزن على سيرورة الحياة في البيت لم يعد هناك مواعيد
للطعم جمْعا كما كان يُنتظرُ قدوم الأب لابل كان طرقه البابَ يبعث شحنة
متجددة بعودته كل مرة من عمله يبعث شحنة متجددة كل مرة شحنة من الحيوية
والبشر على وجوه الحاضرين فرحة بتواجده..
ويخلو
المكان من وجوده فجأة لو كان قد لزم الفراش مرضا قبل رحيله لكان الأمر
أكثر هوانا عليهم لكانوا قد جنبهم ذلك صدمة الإنتقال الفجائي من قمة العطاء
الى عدمه..رحمه الله....من شعر بالجوع أكل فيهدئ لسعته ومن أخذ النعاس
انسحب الى فراشه غرق كل في شانه أما سعاد فانزوت على نفسها في حديث دائم مع
نفسها تتجاذب أطرافه تغوص أغوار الماضي حينا وتطفو على صفحة الحاضر حينا
آخر ..ويخترق طيف عصام بين الفينة والأخرى جدار انزوائها وعزلتها ..ترى كيف
هو ومالذي صار عليه امره ..أهو يرتب أمره ليسعد بأخرى ؟؟؟ أم هو لازال على
العهد برجاء فيها ؟؟؟
تطرد
سريعا تلك الهواجس من مخيّلتها حتى لاتقع فريسة لآمال نسجتها يوما بأنامل
أمانيها كانت قاب قوسين او ادنى تحقيقها ..آمال تباعدت بينهما مسافات
البعد...تطوي صفحتها لتشحن بها رصيد ذاكرة أياماها..يوم يمر ليترك موقعا
ليوم جديد تشابهت تلك الأيام بالنسبة لها كلنا نعلم أنت وانا عزيزي القارئ
أن بعيدا هناك في سويداء قلب سعاد أنها ترجو ان يحدث أمر يكون منعطفا مهما
في حيلتها تنتظر وتنتظر سعاد ولايحدث شيء ..ليس عيبا أو حراما أن تتمنى أن
يكون عصام زوجا لها ولكن هي لاتريد ان يتجاوز ماتشعر به حد التمني
..كبرياؤها لايسمح لها أن تنبش بأصبع التذكير ركام حدث مرّ وفات..هي تعلم
وكانت على يقين أن رفض أباها لعصام لم يكن أبدا طعْنا في مكانته خلقا أو
خُلُقا أو استعلاء وتكبرا نظرا لفارق المستوى المعيشي للأسرتين ..لا هي
كانت على يقين أن أباها كان يحبها حبا عظيما أنساه أن ابنته صارت إمرأة وأن
للمرأة الرجل ..سعاد تريد التخلص من أذرع هذا الأخطبوط الذي ماإن تتملص
منه زمنا إلا ليلتفّ على مخيلتها زمنا آخر...تقرر ذات صباح وكأنها تكسر
واجهة زجاجية بقبضة يد عارية ..أماه سأخرج للعمل..يتهلل وجه الأم فرحة بما
سمعت ...أخيرا يا سعاد ليت النفس تطيب لها الزغردة لكنت فعلت...وتسترسل
الأم. اذهبي بنيتي هناك هم بحاجة للمساعدة في قسم الشؤون القانونية
بمقاولتنا..أتصل بهم الآن ما رأيك..؟؟؟
لامقاطعة
البنت لالا أريد المقاولة لاأهتم بما يجري فيها أضيفي الى ذلك إخوتي هم
الأقدر على ملء الفراغ هناك...أنا بحاجة الى مايشغلني بقليل من المسؤولية
ماأعايشه صعب يا أماه انا بحاجة لإنتقال سلس ..صديقة لي تعمل محامية لدى
المجلس سأساعدها في شان إدارة أعمال مكتبها ..لم تكن خيبة أمل بالنسبة للأم
يكفي أن ابنتها قررت أخيرا مغادرة سجن
أغلقت
على نفسها داخله بإرادتها..يعاود النشاط سعاد وتعودها حيويتها اختطفت
نفسها عنوة من وحدتها التي كانت تبعده يوما بعد يوم من صديقاتها وقريباتها
ناهيك عن أمها وإخوتها ..تستيقظ مبكرة مع الطير تُعيد إليها لياقتها
بممارسة تمارين عضلية بعد أداء صلاة الصبح كل يوم..تهيء الإفطار ليستيقظ
الجميع بعدها متوجهين الى مائدته في حين هي تفتح الباب متوجهة الى مقر
عملها تملأ رئتيها من صفوة نسائم صباحية...يوم سعاد حافل بما تكدس من أعمال
على مكتبها يمتزج التعب ونشوة الأداء فيرسمان على محياها مشهد سكينة النفس
ورضاها..لتعود آخر النهار وقد أضناها التعب متلهفة لقاء امها .. تحكي لها
أول يوم جديد خارج البيت...تفتح الباب ...تنادي أماه ..ثم تتوقف فجأة
مكانها تسمع صوتا غريبا في الحجرة المجاورة المخصصة لإستقبال الضيوف صوت
رجل ثم صوت أخيها وأمها ضيافة في هذا الوقت الحيرة تتملكها وفي غمرة
ارتباكها تسمع صوت الغريب ثانية يقول...شرف لي الزواج من ابنتكم
المصونة..سأجعل منها أميرة بين أترابها ليعقب فؤاد أخوها مقاطعا وسيكون
الشرف لنا بمصاهرتك يارفيق..ماذا لو انتظرنا رأي سعاد توجه الأم خطابها
لولدها بنبرة التانيب ..سعاد عرفت ماكان يدور بتلك الغرفة..إنه رفيق صاحب
الأربعين رفيق التاجر صاحب محل المجوهرات على بعد أربعة منازل من
بيتها..سعاد تمشي وتحادث نفسها هو رفيق من كانت تزعجها وقفته أمام محله
خصيصا لحظة مرورها امامه ليستعرض تواجده بلباسه الأنيق غير بعيد من سيارة
يداعب مفاتيحها مصدرا أصواتا لها مفزعة بالضغظ عليها مناديا البائع في
المحل بصوت يسمعه القريب والبعيد ..أنا ذاهب لزيارة صديقي شيخ البلدية
..نعم هي لحظات فقط كانت كافية بالنسبة لرفيق لأجل انهاء ذلك السيناريو
السخيف...رفيق هذا طلق زوجته منذ أيام فقط ولم يكن ذلك السيناريو بالجديد
بل تكررمرات ومرات قبل وبعد انفصاله عن زوجته..سعاد لايشغل حيّز وقتها
حركاته خارج حيّز تلك اللحظات لتنس الأمر بعدها وكأنه لم يكن ...تحدث نفسها
وهي تتوجه الى غرفتها غير آبهة بما يحدث بحجرة الضيوف..تجلس على سريرها
فتجد أن لجلستها طعم آخر ولكنها سرعان ما تقف مذعورة ..تهرع الى حجرة
الضيوف تدخل دون إذن تقف والباب مشرع تتفحص الجالسين بنظرة ثاقبة يصمت
الجميع الأم تدعوها لمشاركتهم الجلسة فالأمر يخصها بالدرجة الأولى ..تشيح
سعاد عنها بوجهها وتوجه حديثها لرفيق..أهلا بجارنا الكريم ..عساك بخير
..جئتنا خاطبا ...من جئت تخطب ؟؟؟ يبدو أنك اخطأت العنوان فبيتنا خلا بنتا
..للزواج...يوفقك الله الى ما هو خير لك ثم تعود الى غرفتها وقد تنفست
الصعداء...إنه حمل أزاحته بعفويتها وصرامتها المعهودة ..تستلقي على السرير
لتبحر في تأملاتها وقد نسيت كلية مشهدا سخيفا عايشته منذ لحظات...مدت يدها
الى صورة أبيها أخذتها ..أبتاه أتراك حقا رحلت عنا ولن تعود ؟؟؟ طبعت عليها
قبلة طويلة بللتها دموع اللّوعة والأسى..لتسلم أجفانها للنوم دون تناول
طعام العشاء...
صاحبنا
الخاطب أصابه الذهول مما سمع وسُقِط في يده شاعرا الإهانة من غير
إهانة...فخرج من البيت لايلوي على شيء يلحق به فؤاد مشفقا...لايلتفت اليه
...مسمعا إياه كلمات توحي غضبه منه..وكان فؤادا قد وعده بمالم يتحقق من
ورائه رجاء له...فؤاد يعود للدار يسأل امه مستغربا وقاحة ابنتها..مالذي
يُعاب عن رفيق ؟؟؟؟ إنه كذا وكذا وكذا معددا اوصافا لو جُمعت بين يدي سعاد
ورقا لرمت به غير آسفة بسلة مهملاتها...سأكلمها أين هي ؟؟؟
انتظر
دعها تخلد للنوم لقد مر عليها يوم شاق...رفيق كان يعلم قصة خطوبة عصام
لسعاد وخيبة أمله فيها لقد كان فؤادا أخوها من مقربيه ولم يبخل عليه بكل
تفاصيل الحكاية...رفيق أخذته العزة بالنفس كيف ترفضه هو صاحب العلاقات
القوية تاجر ذهب وسيارات وعقارات ...إنه الحب ما اعماها .. لازالت متعلقة
به.. عصام النذل كيف سلب عقلها ...يكون لي معه شأن لابد وانه من يشحن
تعلقها به خفية عن أهلها... سأجعله ينسى أمرها ...في صباح اليوم التالي
استيقظ رفيق على غير عادته مبكرا يتجه صوب منزل عصام على موعد مغادرته الى
العمل ..أمام الباب كان عصام يشغل وقته في نفض الغبار عن مصباح يعلو الباب
الخارجي هكذا كان دأبه لايضيع دقائق تفيض عن عدد ما يلزمه للوصول الى مقر
عمله...
سيارة تتوقف وأزيز محركها يملأ المكان هذا الصباح المبكر في ذلك الشارع الذي خلا سوى من حركة سير محتشمة...
يطل
رفيق من نافذة سيارته دون ان يترجل..إسمع أنت هناك ..ألا تدع سعاد وشانها
؟؟؟ يستدير عصام نحو الصوت والذهول يلفه ..سعاد ؟؟؟ شأنها ؟؟؟ من أنت ؟؟
ماذا أردت بما تقول ؟؟؟ سعاد ماشأني بها ؟؟؟ جننت والله ..أنت في الزمن
الخطأ وفي المكان الخطأ انصحك الإبتعاد ..رفيق لايلقي بالا لِما سمع فيوجه
خطابه لعصام هذه المرة بنبرة أكثر حدة وجرأة غير مسبوقة ..ألا تخجل من نفسك
؟؟ طُرِدتَ من بابهم شر طردة ولازلت تريد الوصول اليها ينزل من سيارته
متجها نحو فريد ومسترسلا لِم تغرر بالمسكينة ؟؟؟ أتطمع في مالها ؟؟؟ كفاك
تحايلا وارض بما قسمه الله لك نصيبا...كانت تلك الكلمات تمضي في قلب عصام
مُضِيَّ السهام . ..قشعريرة تسري في بدنه وعرق يتصبب منه إنه الغضب الجارف
يصّعّدُ داخله كما يصعّد عامود نار في عنان السماء...ولكن الله حباه رباطة
جأش لو وُزِعت على مئة رجل لكفتهم ..توقف عن سماع ذلك المتهور وآثر سماع
صوت ....تجلد يا عصام ابق عاليا ولاتنزل الى حضيض دناءته ..صبرا يا
عصام...هدأ قليلا ثم وجه كلامه بنبرة مهذبة يا رجل...لاشان لي بسعاد لاأخطط
لخطبتها حدث ذلك مرة ولم يكن هناك نصيب أكيد أنك تقصد شخصا غيري..ولعلك
اخطأت فتثبت من أمرك أرجوك..واتق الله في المسكينة إنك تنال من كرامتها
وانت هنا تصرخ بإسمها على مسمع الجميع...دونك وخطبتها لن تجدني في
طريقك...عصام كانت الكلمات تخرج من فيه وكأنه يعتصرها عصرا من ثمرة روحه
راجيا وقعها الطيب في نفس ذلك المتعجرف ولكنه نسي أن أحدهم لٌقِبَ بالمتنبي
قال يوما..
إن أنت أكرمت الكريم ملكته..... وإن انت أكرمتَ اللئيم تمردا.
يتقدم
رفيق خطوات ويعلو صوته أكثر..إنه اللؤم في أبشع صوره ولو كان شاهدا
المتنبي ماحدث لقال في أمثاله قصيدة ...وليس بيتا..أو بيتين...
مكانك
لاتراوغ ولست أهدر وقتي مع امثالك..أرسل إليها بخبر تصدقها فيه أنك لاحاجة
لك بها وأنك لست ممن يضيع وقته مع مثيلاتها ..يصمت عصام فلقد بلغ الغضب
منه مبلغه ..يصمت ولايدري ما يقول يتقدم رفيق منه أكثر يتمادى يدفعه بيده
الى الوراء تصيب عينا عصام غشاوة ..ولا يدري مايحدث معه صفير في أذنيه
وحرارة في صدره ثم ينثني عليه بلكمة قوية كانت كافية لجعله يدور حول نفسه
يترنح ثم يسقط على الأرض وهو يصرخ مُوَلوِلََا من شدة الألم ينظر بهلع لدماء
تتقاطر من فمه على قميصه الأبيض..يتجمع الناس بتساءلون مالذي يجري ؟؟؟ الأم
تخرج تتحسس جسد ولدها بني هل أصابك مكروه مابال الرجل ساقطا على الأرض ؟؟
لغط كثير وجلبة تملأ المكان. رفيق يتلقى اسعافا أوليا ..دقائق بعدها كان
عصام مقيد اليدين بمخفر الشرطة.. .التهمة إعتداء بالضرب حسب ماشهده الشهود
وليس ما سمعوه من جدال كان بينهما...
تُسجل
أقواله..هل انت من ضربه. ؟؟ نعم ..هل ضربك ؟؟؟ لا ولكنه دفعني دفعا قويا
..الشارع لم يهدأ ضجيجه الجيران يتجمعون وكل يروي الحكاية بشكل ..ولكنهم
يجمعون على أمر واحد..ليس عصام من يعتدي بالضرب على احدهم فإن فعل فإن وراء
الأكمة ما وراءها...كان ذلك صوت الشيخ محمود إمام مسجد الحي كفاكم لغطا
ليكن وجهتنا قسم الشرطة هناك يمكننا تقديم شيء ما لعصام المسكين..تجمهر
امام القسم ..عصام يترجى رئيس المخفر.أن يسمح له مخاطبة المتجمهرين بفطنته
أدرك ما يحدث خارجا ..
كان
لذلك الوقع الطيب في نفس رئيس المخفر ولشدة اعجابه بما طرح عصام أزال
القيد من معصميه ...يصرخ عصام ..عمي محمود انا بخير أترجاكم كلكم عودوا الى
حارتكم..لن يكون بمقدوركم فعل شيء ..هذا قضاء الله ولا راد لقضائه..أنا من
ضرب ذلك المتعجرف أنا من اوقف عربدته وكنت مرغما أيها الكرام
لابطلا...خطاب عصام كان مباشرا بلاوجل ولاتردد ..أيقن من ورائه عمي محمود
من أنه لامفر من العودة ويفعل الله مايشاء..
التهمة
ثابتة ولا تحتج لديليل فالإعتراف سيّد الأدلة ينتهي نطق الحكم على عصام
بست أشهر مع النفاذ..في غرفة ضيقة يقبع وحيدا يقلب دفاتر الأيام...عجبي مما
يحدث من أمر هذه الدنيا مالذي أوصلني الى ما أنا فيه..هل جنيت على أحد ؟؟؟
هل سطوت على مالغيري ؟؟؟
هل
طلبت من الدنيا مالم يُقدر لي نيله فعاندت وأصررت لأجل نيله ؟؟؟ لي الله
أنا مالذي رمى في طريقي ذاك المعتوه ؟؟؟ كيف له أن يعتقد أنني خصم له ؟؟؟
ياسبحان الله مقلب الأحوال ..تذكر قصة سيدنا يوسف عليه السلام .أخرج مصحفا
صغيرا لايغادر جيبه أبدا فتحه على سورة يوسف عليه السلام شرع في القراءة
..الغرفة عتمة ولايكاد يتبين الحروف يعيد المصحف لجيبه ويقرأ
صامتا..مستسلما للنوم ...
فؤاد
يحكي لأمه أحداث ذلك اليوم.تتحسر المسكينة على ما أصاب عصام سعاد تسمع.
دمعة على خدها تسيل..خطّتْ على وجهها كل مشاعر الأسى والحزن لِما ألمّ
بعصام..صباحا تهاتف خالتها تستقدمها ..و خلال ذلك تطلب من صديقتها صاحبة
المكتب رفقتها الى السجين عصام..قررت سعاد زيارته في السجن..تصل النساء
الثلاثة بوابته لم يكن هناك حرج كثير في بلوغ موقعه...متوترة سعاد تتقدم
بخطى ثابتة في رواق طويل بين غرف النزلاء.. يتقدمهن أحد الحراس ..ليتوقف
أخيرا أمام إحداها مفسحا الطريق لهن قائلا..تفضلن سيداتي...أمامهن رجل يقف
على استحياء مواجها سيدات ثلاث ينظر الى سعاد برهة ثم يطأطئ رأسه مليا..
رجل
رسمت الهموم على صفحة وجهه خطوط الكآبة ..ملامحه لم تتغير كثيرا هو كما
عهدته منذ سنين طويلة ...بلغني أيها الكريم ما ألمّ بك بسببي ..لك الله
أيها الطيّب .. والله عليم أنني براء مما يفعلون...نظر اليها مرة أخرى ثم
أطرق برأسه وعاد الى الوراء ليجلس على الأرض مسندا ظهره الى الجدار تبكي سعاد بمرارة فتبكي رفيقتاها لبكائها ثم يغادرن السجن
ولعل
سعاد كانت تناجي نفسها طرق العودة...هي أقدارنا تأخذنا أينما شاءت نفرح
ونحزن نضحك ونبكي نسعد ونشقى كم أصبنا لذات الحياة وكم أصابتنا آلامها .
خوف وطمأنينة ..ولو أحصينا ذلك كله لوجدنا أن لحظات الفرح والضحك والسعادة
والطمأنينة لاتعد مقارنة بساعات أو أيام من الحزن والبكاء والشقاء
والخوف..هو كذلك حال الدنيا وهل انصفت الدنيا مظلوما ..فلنشح عنها بوجوهنا
ولنضع صوب أعيننا ما يمكننا أخذه منها خلسة أو عنوة..ويحضرني هنا أبيات
لعمر الخيام من رباعياته المعروفة ..
لا تشغل البال بماضي الزمان
ولا بِآتي العيش قبــــل الأوان
واغنم من الحاضـــــــر لذَّاتِه
فليس في طبــع الليالي الأمان
في
آخر ذلك النهار كانت سعاد قد غيّرت وجهتها في العودة وكان بيت عصام مقصدها
يُرحبُ بها وتُدعى لفنجان قهوة ولكنها تعتذر رغم اصرار الأم...كانت لي
جولة في السجت مررت بعصام هو بخير يبلغكم سلامه أوصاني أن أصلكم بهذا الظرف
تستفسر الم عما به فتجيبها أنها لاعلم لها بذلك وتنصرف ..أم عصام وأبوه
قست عليهما الأيام في غياب ابنهما ولم وكانت العفة سلطانا نهاهما عن مد يد
الحاجة الى أي كان ..كانت فرحة الوالدين عظيمة وهما يفتحان الظرف ليجدا به
مبلغا من المال يعادل فترة مكوث عصام بالسجن فيكفيهما مؤنة السؤال..كان
لسعاد موقفا صارما تجاه تصرف أخيها فؤاد وعلاقته بالتاجر رفيق..وحذرته أنها
ليست بالقاصر وأنه لم يكن عليه أن يُقحِم خصوصياتها ضمن علاقته مع ذلك
المتعجرف..فلو كان والدها حيا لما تجرأ واقترب لطلب يدها...سعاد تتخلى عن
انطوائها فتنفض الغبار عن أواصر العلاقة بين أفراد الأسرة فتحادث الأم في
كل صغيرة وكبيرة تهم شأن مقاولة أبيها رحمه الله.. وشأن إخوتها في تهيئتهم
لخوض غمار عملية الإشراف على تسيير الأعمال ..
سعاد
تتغير حياتها وكان لخروجها من انطوائها الأثر الكبير في إتاحتها النظر الى
مايجري من زاوية أخرى...الآن وبعد رحيل الوالد رحمه الله يتوضح لها جليا
انها لم تعد طفلة صغيرة لاحاجة لها في الدنيا غير التدلل والرعاية
المفرطة..يتوضح لها جليا وقد غاب من كان يذكرها دوما انها طفلته جوهرته
وستبقى كذلك ..يتوضح لها انها إمراة بكل ماتعنيه الكلمة وأنه يتوجب عليها
أداء دور فعال في ملء فراغ رهيب تركه المرحوم وراءه...هي تدرك أنه يتوجب
عليها أن تمر الى مربع القرار سواء كان ذلك يخص ترتيب أمور البيت أو يخص
شأنها ومستقبلها ..إنه زمام المبادرة وعليها أن تبادر بكل ما أوتيت من حكمة
وتعقل جُبِلت عليهما..تفكر سعاد وتفكر وتعود الى الوراء الى عهد كانت وضعت
أحداثه موضع مايوضع تحت النظر والإنتظار...لقد اختارت بالموافقة يوما على
رجل..اختارته برأي العقل بعيدا عن رأي العاطفة ..ويشاء نصيبها أن لايتحقق
إختيارها ..لم يظلمها أحد حين عارض اختيارها إنه رحمه الله لم يكن ليغيضها
باعتراضه ذلك وهي تدرك بعين عقلها أن حب والدها كان جارفا ليس لها فقط
وإنما كان جارفا له فأنساه ماكان يتوجب عليه عدم نسيانه..كانت قد اعطت المر
حق قدره ولم تتذمر ولم تتضجر فهي البنت الوفية البارة بأبيها وكتمت عن
ميولها ورغبتها بل عضت عليها بنواجذ الصبر والحلم والتعقل...اليوم تجد أن
ذلك الحب الجارف لم يعد موجودا وكم صارت الدنيا موحشة بغيابه..اليوم سعاد
تدرك ان لاسبب مقنعا يمنعها من تحقيق اختيارها بالإرتباط من عصام...مهلا يا
سعاد يستوقفها رقيب العقل..ومن أدراك أن عصام لازال على عهده برغبته في
الإرتباط بك ؟؟؟؟
وقفة
مع نفسها طويلة كي تجيب على هذا السؤال الجوهري وحتى تكبح جماح عاطفتها
آثرت التريث وعدم الإندفاع فقد تحمل الأيام القادمة في جعبتها مايميط
اللثام عما أسرّته تلك الأيام بين خفاياها...
يغادر
عصام السجن..ويعود الى بيته وحارته معززا مكرما في بيته وحارته لم يكن
كغيره ممن يغادرون السجو ليُنظر الى ماضيهم مهما تقدم حاضرهم ...عروض صداقة
جديدة عروض عمل...فرحة الجميع بعصام أنسته ماكابده شهورا طويلة قضاها في
ذلك السجن...يسأل أمه وأباه عن مالقياه من ضنك العيش في غيابه..فيطمئنانه
أن المبلغ من المال الذي أرسله لهم كان كافيا لسد حاجتهم وإغنائهم مذلة
السؤال...يذهل مما يسمع ..لم أرسل مالاً ومن أين لي به لأرسله هناك خطأ
ما...تقاطعه الأم يا ولدي لا تتغافل فإن يدك بيضاء كانت على الدوام وهل
أحرجك يوما مساعدتك لنا ؟؟؟ يقاطعها بقوة هذه المرة لم أرسل مالا يا
أماه... تنتاب الأم الحيرة ولكن يا وليد يوم زارتك سعاد فيسجنك أبلغتنا
ظرفا به المال وأخبرتنا أنك انتَ من أرسل...لم أرسل يا أماه لابد وأنها
أشفقت لحالنا إضافة لوخز ضميرها لشعورها أنها كانت السبب من وراء ما لحقني
من أذى ..كريمة هي بحق سعاد يجب علي تدبر أمر المال وإعادته لصاحبته..يخرج
من البيت لغرض استلاف المبلغ يتذكر صديقا كانت له يد بيضاء عليه في مامضى
من الزمن ..وإنه الجني الطيب وإنه الزرع الطيب كان ..كما يقال يُقال
بدارجتنا ( دير الخير وانساه ودير الشر وتفكرو )
وحين
عودته للدار تخلو به أمه وتساله ..ألا زلت يا عصام على عهدك برغبتك في
الزواج من سعاد ؟؟؟ كانت رغبة يا أم ولازالت ولكنني اوصدت عليها باب الطي
والكبت بمفتاح كبريائي وكرامتي أنسيت يا أمها مذلة الصد مالقيناه من أهلها
يوم عدت تجُرين أذيال الخيبة والقهر ؟؟؟
إنسِ
الأمر يا أم ولنشغل أنفسنا بما يغنينا عن إهانة أنفسنا أين نحن من هؤلاء
؟؟ هو ذا المبلغ أرسليه مع الخالة غدا على تباشير الصباح ...
يخرج
من البيت على عجل مبتعدا عما كانت الأم تريد جرّه اليه ..يجلس في المقهى
في طرف الحارة لترتيب أفكاره المشتتة ..ولكن هيهات كلمات أمه تلاحقه تحيط
به تأخذه الى قسرا الى التفكير في من أراده يوما زوجة له...هل يعيد الكرّة
من جديد ؟؟ تذكر يوم أن راسلها مستفسرا رأيها فيه إن تقدم لخطبتها ...يجفل
لمجرد أن راودته الفكرة ينهض مسرعا عائدا الى البيت هاربا من أفكاره ..مرة
أخرى.. وحيدا في غرفته يعاوده الهاجس .ولكن تراها على سابق عهدها برضاها به
واختيارها له شريك حياتها ؟؟؟
أيام
طويلة بل شهور طويلة مرّت وقد تكون للظروف فعلتها وقد تكون قد غيّرت رأيها
..هل عليه جس النبض كما سبق وأن فعل ؟؟؟ ولكن صوت عقله يستوقفه ..فآثر
التريث وعدم الإندفاع فقد تحمل الأيام القادمة في جعبتها مايميط اللثام عما
أسرّته تلك الأيام بين خفاياها...
بعد الحاذثة التي وقعت لعصام والتي رأى فيها الناس ظلما وقع عليه ..صار محبوب الجميع ولايتوقف ذكر خصاله الكريمة على كل لسان..
يعرض
عليه الشيخ محمود إمام المسجد استثمار مبلغ من المال في تشغيل سيارة أجرة
يقوم على شانها عصام ..فيتخلص من رزية مرتب الوظيف ليحسن من وضعه المادي
يقبل الفكرة بلا تردد..ويباشر عمله بكل اتقان وصدق ووفاء لصاحب السيارة
ويجد في ذلك متعة كبيرة وهو يقوم على خدمة غيره بروح عالية من حسن المعاملة
واللياقة ..ويتحسن دخله اليومي..العمل كثير ولايكاد يلبي الطلبات ..في
صبيحة يوم مثلجة كان يمر أمام محطة الأوتوبيس يستوقفه أحد المنتظرين كان
رجلا مسنا ثم امرأة ثم أخرى وثالثة ..يخترق عصام شوارع المدينة مُبلغا كل
زبون وجهته ينزل الرجل..أمام سوق الخضار..ثم تلته المرأة قبالة صندوق
التعويضات لتنزل أخرى عند روضة الأطفال يسأل عصام دون أن يلتفت آخر من
ركب..الوجهة سيدتي..؟؟؟ تجيب : مكتب الأستاذه سامية رجاء..تسري في بدنه
قشعريرة ..الصوت ليس غريبا عنه ..إنه يعرفه إنه يخترقه ..يتمالك نفسه كيلا
يفقد السيطرة على سيارته وسط زحمة الحركة..يعود الى الهدوء الى أن وصل
قبالة مكتب الأستاذة ساد تفتح حقيبتها لتتناول المبلغ الذي عليها..وتمد
نحوه يدا مرتجفة يلتفت وراءه لأجل أخذ المال تخفض رأسها وتقول : بالبركة يا
عصام العمل الجديد ثم تخلي المكان بأسرع ما اوتيت من قوة..لتتوارى خلف
بوابة المكتب يتبعها عصام بنظراته ..كالأبله ..كما هي سعاد لم تتغير رقتها
دماثة خلقها حياؤها...يجد نفسه مقيّدا عن كل حركة عودة غير متوقعة لمشاعره
الجارفه ..هذه المرة الوجهة البيت ..
أول
من يلاقيه أمه رتبي موعدا مع أهل سعاد لم أعد اطيق جحيم التردد ..يتهلل
وجه الأم فرحة ...يعود عصان على عجل صوب مكتب الأستاذه سامية يستأذن مقابلة
سعاد..تتردد سعاد ثم توافق..الجلسة ثلاثية والأستاذه شاهدة عيان بها
..يجلس عصام يُقدم له مشروب ...تلاحظ ارتباكا لديه.ومحاولته جاهدا
إخفاءه..تبتسم في وجهه وتسأله بهدوء..مرحبا بك يا عصام ألديك مشكلة قانونية
مع السيارة ؟؟؟
أدرك
أنها ماأرادت الا إزاحة حرج لديه ودفعه للحديث ..لاسيدتي بل انا متواجد
لشان آخر ..تفضل سيدي وقل ما تريد..أم يحرجك وجودي ؟؟ هااااا ؟؟؟ يقاطعها
...لالالا بل إبقي مكانك.. عذرا لم أحسن التعبير . بل يريحني تواجدك ..جئت
أطرح سؤالا على الكريمة سعاد ثم أعود أدراجي...إسأل يا عصام فهي تسمعك تشجع
يا بطل ألست من أطاح بذلك الضخم بلكمة واحدة ..تشجعه مازحة..يستجمع قواه
ويوجه حديثه مباشرة لسعاد..هل ...هل سيكون مُرحبا به قدومنا اليكم أم ستكون
الخيبة كسابقتها ؟؟؟ لانريد أن يتكرر ما حصل سابقا..لقد طلبت من أمي ان
تهيء أمر زيارتنا لكم..أننت على ماكنت عليه من عهد بك في القبول ؟؟؟
سعاد
تعبث بقلم بين اصابعها تخفض بصرها ثم ترفعه لتنظر الى صاحبتها وكانها تطلب
استغاثة...تقف الأستاذه سامية فيقف عصام ..لك ان تذهب يا ابن الأفاضل
حاملا البشرى لعصام ولأم عصام ولأبيه ..يتراجع عصام خطوات الى الوراء ينقلب
الكرسي وراءه يكاد يسقط ليجد الحائط سندا له تحاول الأستاذه من غير جدوى
إخفاء ضحكها ..يندفع خارج المكتب الى البيت ليقابل أمه ثانية وعيناه تضحكان
.. الفرحة .تعقد لسانه ولكنه بعد لأي يتمكن القول...سنذهب يا أماه هذه
المرة قد أذن ربي بكل الخيرات إنها البشرى أزفها لك.. أبلغي والدي سأخرج
لإقتناء بعض الهدايا...تهاتف سعاد أمها وتزف لها الخبر...فتجد في ردة فعل
امها مالم يخطر لها على بال..دقائق بعد تحضر نفسها لمغادرة المكتب على غير
عادتها في وقت مبكر تعرض عليها سامية مرافقتها بالسيارة فلقد استعادتها
صباح اليوم
...لالا
..يمتعني المشي ..يحرمني الركوب حديث النفس..تنزل بخطى سريعة أدراج السلم
صوب الشارع الرئيسي لتأخذ أقصر الطرق الى البيت .. تشعرزحمة السير وكأنها
تشعرها أول مرّة... في خضم الضجيج لم تكن تسمع غير حديثها مع نفسها ..ترسم
لوحة حياتها مع عصام بريشة أمانيها وأحلامها ..مسرعة الخطو تسابق الزمن ألا
يختطف فرحتها تعبر ممرا للراجلين فآخر وآخر كم هو بعيد البيت ليتني رضخت
لطلب سامية وكفيت نفسي جَهد السير ..تعبر ممرا آخر قد يكون آخر
المعابر...فرملة قوية آآآآآآآآآه يا سعاد..إله الموجودات ورب الأكوان
رحمااااااااك ..كانت الصدمة عنيفة يتجمع الناس حول جسد ملقى بلا حراك
والدماء بقع هنا وهناك تغطي الأرض وكثير من جسدها أحد المارة يجس نبضها
ويصرخ ..إنها حيّة ..أسعفوها..دقائق بعدها في غرفة الإستعجال يتم استقبالها
ثم تُحوّل الى غرفة الجراحة...عملية وأخرى وأخرى لِتُحول أخيرا الى غرفة
العناية المركزة..الأم المسكينة تقضي الساعات خلف واجهة من زجاج شفاف..عصام
في غدو ورواح لايكاد يغادر المكان الا لحاجة ثم يرجع..
يوم
يمر وآخر وآخر ..رابع يوم ومع الصباح تفتح سعاد عينيها فيعم البشر الجميع
على وقع الخبر الذي سارعت بنشره الممرضة المسؤولة إنها الفرحة التي لايمكن
وصفها تُنقل سعاد الى غرفة خصيصا لها ..يشرق وجه الأم بعد أن أذهب اليأس
والألم نظارته ولسانها لايتوقف حمدا لله على نعمة عودتها اليها بعد أن
شارفت على اللحاق بأبيها..الجميع حول سعاد يملأون النظر ويعبونه من حياة
بعد موت..سعاد لاتتكلم تجيل ببصرها فيهم ليقع على عصام تغمض عينيها ولكن
دمعة تتحرر من بين جفنيها لتنساب على خدها...يتدخل الطبيب لإخلاء الغرفة
ضرورة لراحة البنت ..لتبق أم سعاد وليغادر الباقون..يرافق الطبيب أم سعاد
الى غرفة مجاورة ويقول .بكل أسف سيدتي ابنتك أصيب بشلل سفلي ولايمكنها
الحركة أبدا بعد اليوم..تنهار الأم على كرسي قريب ..تمسك رأسها بيديها
وتذهب في نوبة بكاء ...لانهاية لها ..يخرج الطبيب ولايكاد يفعل
مضيفا..ابنتك سيدتي على علم بما حلّ بها..ثم يغادر المكان..يدخل فؤاد ولقد
علم بالأمر يقترب من أمه ويخفف عنها مذكرا اياها أن تحمد الله على نجاتها
من الموت وانها حية ترزق بينهم...وكان الم كانت في غيبوبة لتستفيق .ابنتي
حية أرونيها..تلج حجرة ابنتها تبتسم البنت في وجه أمها وتقول لاتحزني يا
أماه قدر الله وما شاء فعل .الحمد له والشكر على نعمة الحياة بعد أن أشرفت
على الممات...بنيتي ..ماأعظم مصابك وما أشدك على ما أصابك..أريد طعاما أريد
شرابا ..أريد العودة الى البيت ..اجلب أكلا يا فؤاد صبرا بنيتي سيقرر
الطبيب إذْن خروجك..آخر النهار كان عصام وأمه أمام باب غرفة سعاد ينتظران
مغادرة الطبيب...يدخلان الغرفة كانت أمها تجلس على كرسي قريبا منها..تتوجه
نحو سعاد تطبع قبلة طويلة عل جبينها..حبيبتي سعاد الحمد لله على سلامتك
..هيا كفاك كسلا ..أم ألِفت الإسترخاء على هذا السرير المريح ...هيا
لاتطيلي المكث هنا ..نريد أن نفرح بكما ..قريبا وكم هو مُضنٍ
الإنتظار...سعاد تسمع ولاترد ببِنت شفة..تستدير ناحية أخرى ...عصام إقترب
أرجوك..يسود الغرفة صمت رهيب..تنظر في وجهه مليّا ثم تقول..أتمنى لك
السعادة مع أخرى أيها الطيّب..لقد حلُمتَ أن تكون لك امرأة وكاد حلمك ان
يتحقق ولكن الأقدار اخذت منك نصف تلك المراة قالت ذلك وهي تشير الى
ساقيها..تبكي ام سعاد وتبكي ام عصام تدخل الممرضة ويصاب الجميع بهستيريا
بكاء أشبه بالعويل...يخرج عصام لايلوي على شيء كالمجنون يبحث عن مكان يأوي
وحدة كان في أمس الحاجة اليها ليجد نفسه في طرف حديقة المستشفى على الأرض
رأسه بين ركبتيه يغرق في بكاء قارب النحيب ثم ليتوقف فجأة يمسح دموعه يقوم
يسوي هندامه وعلى عجل يعود لغرقة سعاد هاأنا عدت لقد شغلني طارئ ..لِم
البكاء يا ناس ؟؟؟ سعاد بألف خير ..أماه مايبكيك أليس هي سعاد امامنا هي
المراة بكامل أوصافها كما حكيت لك على الدوام سعاد كفاك حديثا لايقبله
عقل..لم أغير ولن أغير رأيي أبدا لازلت مصرا على الإرتباط بك هي الروح روحك
مايشدني اليك ..أم هو جسد يذبل كالزهر مع الأيام رأيتِِهِ يشدني ؟؟؟ سامحك
الله أهذا مبلغ مقداري ومكانتي عندك ؟؟؟ كنت أحسبني ذو شأن كبير عندك..
لست
بزوجة لك يا عصام فابحث لك عن غيري تغمض عينيها لتسترسل أريد البقاء وحدي
لو سمح الجميع..تدخل الممرضة وتذكرهم أن الطبيب لايطيب له بقاءهم في الغرفة
ليغادر عصام وأمه يغادر عصام وهو على يقين أن سعاد باتت خارج صورة حياته
سعاد التي كان يعرف عنها صلابة مواقفها وثباتها على رأيها ..يخرج ودموع
قلبه تنهمر على تقطع نسج حلم أودعه بانامل جوارحه كل خيوط أمانيه في الظفر
بكريمة الخلق والخلُق رفيقة درب حياته...سعاد تتعافى ولكن القدر شاء ان
تقضي بقية عمرها على كرسي متحرك ..تم جلبه من الخارج خصيصا لتناسب وانتقاله
بكل سلاسة الى المقد الأمامي لسيارة العائلة..سعاد تترك مكتب سامية لتقضي
أغلب أوقاتها في القراءة وقد تم تهيئة غرفة لها خصيصا تفتح نافذتها على
حديقة المنزل. تلثم أوراق شجرة اللوز الضخمة ستائرها كلما هب النسيم..تغادر
من يوم لآخر الى ملجأ للأيتام تقضي بينهم الساعات الطوال تقاسمهم اليتم
تارة ومشاعر العجز والضعف تارة أخرى لتغدق عليهم بما تحمله معها من قطع
شوكولاطة وكتب ودمى إنها تنظر الفرحة في عين البراءة فتلامس الفرحة قلبها
حتى قبل أن تنظرها في تلك الأعين البريئة...
عصام تأخذه زحمة الأيام ليعيش لأجل أمه وأبيه يصارع الحياة حفظا لكرامة العيش لأخوته السبعة الصغار ..
هي
الأقدار هكذا تأخذنا أينما شاءت وكيفما شاءت تفرحنا كما يفرح السذج ولتضحك
علينا بعد ان تشرب حد الثمالة كأس متعتها غفلتنا وسذاجتنا..هي الأقدار..كم
حطمت بمشيئتها قصور أحلام بنيناها بأيدينا لَبِناتُها طيبتنا وبراءتنا
ورغبتنا في تحقيق أمانينا الصغيرة... ولقد شاءت أقدارنا ألا نطال صغار
أمانينا..عصام وكل عصام وطئت قدماه الأرض لم يطلب من الدنيا غير سعادة
رقيقة تجمعه بسعاد بعيدا عن بهرجة الحياة وبريقها ...سعاد وكل سعاد وطئت
قدماها الأرض آثرت بساطة العيش في كنف رجل تدرك انه أحبها لنفسه ولنفسها
رفيقي درب الحياة..سعاد أدركت ان عصام رأى فيها مالم تر عين غيره... جمال
روح اكتحلت به عين جمال روحه ..سعاد أدركت أيضا ان جسد سعاد لم يعد رفيق
درب لحياة عصام ثقيل محمله ...سعاد تدرك أنها هي أبعد النساء عن الأخذ بيد
عصام وإعانته على طريق طريق الحياة بمستلزماتها المتعارف عليها رغم الحاحه
الشديد عليها واصراره على بقاء اختياره قائما ..
سعاد
تدرك بعين عقلها أن الأيام لأعجز من أن تحتمل رضا عصام بنصف امراة.. ستفقد
الأيام صبرها على عصام فتسحب من جعبة عنفوان خياره حلاوتها ...فكان كذلك
قرارها بالبعد حكمة وتروِّ التفافا على دورة الأيام كان قد رآها عصام بعيدة
ورأتها قريبة .خططت لكم هذه الأسطر وكم آلمني تعقيبات لأكثركم تامل نهاية
سعيدة للقصة وأنا عليم بما انتهت عليه من حسرة وألم كم مرة وددت ليّ عنق
أحداثها وجهة ما أردتم ولقد ألمحت لكم بذلك ولكن النفس لم تطاوع ناهيك عن
رغبة لدى بعضكم بمتابعة حقيقة ماجرى من أحداث .قد خططت لكم هذه الأسطر
مرتجلا مسترجعا حكاية أو مشكلة من مشاكل الحياة وقد يكون ممن قرأ عايش أفضع
منها صورة منها...أكتبها مسترجعا أحداثا كان يرويها لي أحدهم وكنت متابعا
عن بعد في صمت حينا ومواسيا مهدئا لأحد أطرافها حينا آخر...أعذروا تأخري
عنكم كل هذا الوقت فإنني لأعجز الناس عن وصف قلة حيلتي وقصر باعي في القدرة
على الأخذ بزمام وقتي وقيادته صوب مايعود علي به من طمأنينة النفس وهدأتها
لم أراجع ماأوردته بهذا الجزء الأخير فاعذروا ضعف أداء تلمسوه.. أشكر
متابعتكم وجميل صبركم وألقاكم على ألف خير في مناسبة أخرى..